يكاد الاعلام ان يصبح لعبة مسلية شبيهة بالألعاب الالكترونية التي يلعبها مقتنو الهواتف الذكية، وصار بإمكان كل واحد من هؤلاء ان يكون مخبرا ومراسلا ومصورا وصحفيا وإعلاميا، بل ومحطة اعلامية متكاملة بفضل جهاز صغير يحمله في جيبه او حقيبته،يكتب فيه ما يشاء، وينشر ويبث ما يشاء من أخبار ومعلومات وصور وفديوهات، وينقل من خلاله ما يشاهد من احداث نقلا حيا مباشرا الى اي صديق او جهة في العالم من أقصاه الى اقصاه، من دون رقابة ولا رقيب، ولا أجهزة معقدة، ولا عربات نقل، ولا كاميرات ثقيلة تضعضع اكتاف المصورين، والأهم من ذلك كله، من دون ان يتهم بالعمالة والتجسس لمصلحة المخابرات الاجنبية، والإضرار بالأمن القومي، والقضايا المصيرية!.
والى سنوات خلت، كان الصحفي والإعلامي العربي يعاني الأمرين وهو يحاول ان يتصل بالصحيفة أو الجهة الاعلامية التي ارسلته لتغطية حدث ما، عبر وسائل بسيطة وبدائية في منظورنا اليوم، فضلا عن رقابة مشددة قد تؤدي به الى أن يصير هو نفسه خبرا منسيا في عالم الاقبية المخابراتية السرية، ويلخص لنا الكاتب والصحفي اللبناني المعروف فؤاد مطر هذه المعاناة في مقالة طريفة عنوانها (ذكريات مريرة لكثيرين من الاباء والأجداد عن الهاتف.. وابتكار تأخر ثلاثين سنة على الصحافة العربية) نشرها ضمن كتابه الموسوم (الصالح والطالح في الحكم والحكام) وهي ذكريات مريرة مع الهاتف عاشها وهو يتنقل بين عواصم العالم العربي من المحيط الى الخليج موفدا او مراسلا للصحيفة التي يعمل فيها (وكان علينا كصحافيين اثروا ان يكون اسلوبهم في العمل هو الانتقال الفوري الى مكان الحدث والتعامل ميدانيا مع هذا الحدث وبما يرضي القارئ ويبعث بالتالي الرضى في نفوسنا،ان نكون دائما على اهبة الانتقال. وفي كل مرة توجهت شخصيا الى عاصمة عربية - مع بعض التفاوت بين عاصمة واخرى- كان الهاتف هما اساسيا من دون ان يعني ذلك ان بقية الهموم وبالذات ما يخص الرقابة ليست اساسية، ولكن هم الهاتف كان اساسيا لأنه نهاية المطاف، ولأنه المحطة الاخيرة في رحلة الشقاء لتأمين ايصال رسالة الى الصحيفة التي نعمل فيها وبحيث تصلها في الوقت الملائم للطبع فلا يتأجل نشرها الى اليوم التالي ويضيع الجهد المضني).
ويتحدث مطر عن اضطرار الصحافيين لممارسة كل اللياقات والاهتمام مع المسؤولين عن الهاتف الدولي والعاملين في بدالة الفندق الذي يقيمون فيه من اجل تيسير الامور والحصول على المكالمة (ثم تحدث المعجزة ونسرع بلهفة لإملاء رسالتنا على احد الزملاء في الصحيفة،وهنا يبدأ المخاض العسير. الاصوات تعلو ولا احد يسمع الآخر وكيف سيكون السمع متيسرا اذا كانت هنالك اذان تسترق السمع بين العاصمتين. العاصمة التي نبعث الرسالة منها والعاصمة التي تتلقى الصحيفة فيها الرسالة. وهذا الاستراق للسمع متخلف الى درجة اننا كنا نسمع احيانا سعال الرقيب)!.
فؤاد مطر الصحفي العربي المخضرم الذي يحمل فوق كاهليه خبرة وتجارب وتحولات اكثر من نصف قرن في العمل الصحافي، واحد من الصحافيين والإعلاميين البارزين الذين شهدوا هذه الطفرة الهائلة في وسائل الاتصال، وتعاملوا مع مفرداتها ووسائلها وأجهزتها المتطورة، مثلما تعاملوا مع - ترانزستور- الخمسينات والستينات، والهواتف السلكية واللاسلكية والهاتف الدولي الشهير المتقطع بسعال الرقيب.
اليوم غاب سعال الرقيب الذي كان يضايق أو يرعب فؤاد مطر والصحفيين من جيله عن هواتفنا النقالة الذكية العبقرية التي جعلت عالمنا قرية صغيرة،ولكن غاب معه ايضا... سعال الضمير!.
By accepting you will be accessing a service provided by a third-party external to https://alarshef.com/
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. - المقالات التي تنشر في الشبكة تعبر عن رأي الكاتب و المسؤولية القانونية تقع على عاتق كاتبها / الاتصال