حدثني صديق مرة، وقال، اتذكر عندما كنا فِي الجيش اثناء الحرب في الثمانينيات، حصل ان عشنا، نحن مجموعة من الجنود، اثناء احدى المعارك موقفا صعبا، وساد الوجوم وجوهنا المتعبة الخائفة من القادم، وايضا كنا جائعين، وفي تلك الاثناء جلسنا على الارض الندية المعشوشبة لنستريح، فيما هدأت بعض الشيء اصوات المدافع وكان الوقت عصرا، وبعد ان مددنا ارجلنا التي غدت كالخرق من فرط الوقوف الطويل والاجهاد، حتى انطلق صوت احد زملائنا بالغناء، نعم بالغناء! الذي بدأه بالعبارة العراقية الشهيرة، ...ويلاه ويللللللللاه... وسط دهشتنا التي تبددت ونحن نصغي الى صوته الجميل الذي لم نسمعه من قبل، والذي راح يفيض علينا بأغاني الشجن العذب التي توافقت مع دواخلنا المكتظة بالالم على فراق الاصدقاء الذين فقدناهم في المعركة، وحالنا الذي لاندري كيف سيؤول.. لم يكن الامر بالنسبة لنا غناء، بل كان بلسما اتى متوافقا مع دواخلنا المشحونة، وكأن صوته بساط ريح، سافرنا به الى اماكن اخرى، ربما انستنا ما كنا نعيشه في تلك اللحظات، وايضا كرست تفاصيل اللحظة في دواخلنا وجعلتنا نتذكرها الى اليوم، ذلك الصوت الذي اندلق معجونا بلون اللحظة ومعبرا عنها، وكانت تلك حكاية قديمة، استفزها بداخلي ما قرأته للشاعر الكبير كريم راضي العماري، في مجموعته الشعرية، الجديدة، (وجع روحي) التي اهداني اياها مؤخرا، والتي جاءت اغلب قصائدها وجدانية، تبث اللوعة والحزن من خلال الحديث عن الوطن والحياة، وتبث وتفضح العشق المعجون باللوعة والالم، بعد ان يخرج هذا الخليط في لحظات تأمل، يتجاوز فيها الشاعر ذاته ليقف عند حكاية عشق والم اكبرين، هما الم الوطن وعشقه له، ليجد نفسه منقسما ومتوزعا بين حالتين تفرضان عليه البوح بطريقة، هي نفسها طريقة صاحبنا المغني في لحظات الحرب والخوف التي عشناها او عاشها الصديق قبل اكثر من ثلاثين عاما، واستعذبها الزملاء في ظرفها القلق ذاك، كما استعذبنا شعر العماري الان، ونحن نعيش لحظة وطنية مكتظة بالاسى على مختلف المستويات، او هذا هو الذي اراد العماري ان يقوله بطريقة خاصة، تتجاوز هتاف الاعلام اليومي ومشاريع الساسة التي لم تثمر حتى اليوم سوى المزيد من الخراب والدمار، او هذا ماجعل العراقيين يشعرون بأنهم محاصرون باللاجدوى من استمرار هذا الواقع الذي اخذ يضيق عليهم يوميا بالازمات والكوارث المتمثلة بفقد الأحبة والاصدقاء في الموت العبثي الذي يداهمنا كل يوم، وهنا ينبغي التذكير بأن العماري فقد اثنين من ابنائه في فوضى الفتن التي عصفت بالبلاد بعد الاحتلال والارهاب الاعمى، وظل ثابت الجنان محبا لوطنه، ومدافعا عن قيم السلام التي يريد لها ان تنتصر، ويكتب الشعر، الذي مازج فيه مأساته الخاصة بفقد اولاده بمأساة الوطن التي ظلت ماثلة في وجدانه الى اليوم، ومن خلال هذه المجموعة التي اعطاها عنوانا فاضحا، ليتجاوز به التعمية او التورية الى البوح الشديد، والذي سيتشظى شعرا في المتن، المسبوق باهداء معبّر يقول ((الى روحي قبل وبعد فوات الاوان))!! حيث تنهمر القصائد التي تبدأ بواحدة من الغزل العذب، بعنوان (عيون جميلة جدا) ثم يدخل القارئ الى مساحة الشجن الذي يتوزع صفحات المجموعة، شجن يحاكي هموم العراقيين، بدءا من الغربة الى اختلال القيم بين بعض الناس، الى المواقف الوطنية والى استذكار الاصدقاء، وابرزهم الشاعر الراحل كاظم اسماعيل الكاطع، واخرى له شخصيا، يعزي بها نفسه وينطلق بها الى عالم آخر، عالم الشاعر الذي تأخذه احاسيسه المرهفة الى مناطق قصية في حياة يرسمها واخرى يتمناها وثالثة يعيشها من اجل ان يبقى متوازنا ومتطلعا الى غد خال من عواصف الآهات التي تتزاحم في الصدور.
(وجع روحي) حكاية عراقية من زمن باتت هي شاهدة عليه، او على بعض تفاصيله التي اختزلها الشاعر في قصائد، اضافت للشاعر شيئا آخر من الشعر واكثر، واقصد على مستوى الموقف الانساني والوطني الذي بات ميدانا للوطنيين العراقيين في مشاغلهم المتعددة وهم يرممون واقعهم المتداعي هذا.. بالشعر وغيره، وهذا قدرهم بالتأكيد!
عبد الامير المجر لم يكتب نبذه عن نفسه لحد الان :
By accepting you will be accessing a service provided by a third-party external to https://alarshef.com/
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. - المقالات التي تنشر في الشبكة تعبر عن رأي الكاتب و المسؤولية القانونية تقع على عاتق كاتبها / الاتصال