لا يعرف من خرم السياسة شيئا من يظن أن الصراع العربي الفارسي التركي الكردي حديث المنبت والنشأة، وأن خلف التدافع مجرد اختلاف ديني أو مذهبي أو عرقي فحسب كما يتصور قراء الظاهر، ولكن التاريخ يفصح بوضوح عن علاقة غير طبيعية ولا مستقرة بحكم صراع الإرادات بين الأطراف، ويخطئ من يتنبأ بغير ذلك، فهو صراع وجود وتحدّ أزلي تجسد بحملات غزو واحتلال وفرض السيطرة والهيمنة والنفوذ، يوم لك ويوم عليك، يتربص كل طرف فيه السوء بالآخر، وتوارثته السلالات، وكرسه تدفق الأفواج البشرية عبر العصور، بدءا من أولى حضارات ما بين النهرين دجلة والفرات وأقدمها حضارة سومر وأكد وبابل وأشور وكلدان (عراقية) منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، حضارات نشأت متزامنة ومتعاقبة، مع حضارات شرق وشمال، سواء من عيلام ببلاد فارس وأرض العجم، المعروفة اليوم بخوزستان وعربستان أو ما يرد من ارض القوقاز وخلف جبال زاجروس ناهيك عن اليونان والرومان.
قامت الحضارة السومرية 2850-2400ق.م أولى حضارات جنوب وادي الرافدين (بابل) عرفت الكتابة المسمارية، وأنشأت المدن الرئيسية أور ولجاش وكيش وإيزين وأريدو وأورك التي عاصرت كلكامش وأسطورته العراقية الخالدة، قسم التاريخ إلى ما قبل الطوفان يمتد فيها عمر الإنسان ألف سنة فأكثر، وما بعد الطوفان حين أصبح عمره لا يتجاوز المائة عام كما تحدثنا الألواح الطينية والتوراة، وتلاهم الأكديون الساميون من الجزيرة العربية اشتهر منهم قائدهم سرجون الأكدي الملقب بالصادق 2335- 2279ق.م. قائد اكبر جيش عراقي في التاريخ، وعاصمته أجادة أقوى وأغنى مدينة وقتها في العالم. وانصهر الشعبان سومر وأكد بشعب واحد وامتد حكمهم ليشمل الهلال الخصيب وبلاد العيلاميين وبعض الأناضول.. حتى انهارت دولتهم سنة 2200 ق.م. بفعل هجمات الجوتيين والقبائل الجبلية الآتية من الشرق واستولوا على أكد وسومر زمنا. ليعاد طردهم بعد عدة أجيال على يد ملك مدينة اوروك اوتوخيكال جالب الخير2120-2112ق.م. وهم من سنوا القوانين قبل حمورابي بثلاثة قرون. وابتكروا الكتابة وفتحوا المدارس. وأنشئوا السدود وحفروا قنوات عدت من معجزات الري ولم يسلموا من الغزو.
ففي2000 سنة ق.م. استولى العلاميون على سومر وأكد دمروا مدنها القديمة ولم يطوروا شيئاً وامتد حكمهم 250سنة حتى تغلب عليهم حمورابي ملك بابل وحكم سومر وأكاد وبابل عام1763ق.م. وخلفه الأموريون والحيثيون والكوشيون والحوريانيون القوقاز، وبعد سنة 1700 ق.م . انتشر الأموريون بأعداد كبيرة في كل الأناضول مؤسسين دولة آشور في شمال بلاد ما بين النهرين وشرقها، وهزموا الميتانيين واستعادوا بابل عام 1225ق.م. حتى اجتاحهم الكاشيون 1595-1153ق.م. ثم الأشوريين حتى 612ق.م. حيث حكم (نبو خذ نصر) العراقي سنة 605ق.م. الذي سبى اليهود مرتين وحكم البلاد من الهند فقطر والبحرين وبابل وبلاد عيلام حتى مصر ونصف تركيا إلى روسيا، وأقام الجنائن المعلقة التي عدت من عجائب الدنيا السبع، وخلفه ملوك ضعفاء قضى على آخرهم كورش الفارسي 539ق.م. الذي أعاد احتلال بابل حتى هزمهم الإسكندر الأكبر، وردهم على أعقابهم خائبين، وبقي سكان وادي الرافدين في حالة تدافع دائم وكر وفر تارة مع حكام بلاد فارس وقبائل تركيا والأنضول وأخرى مع اليونان الرومان كلما سنحت لقوم فرصة الغزو. ليحكم السلوقيون المقدونيون حتى 321ق.م. فالبارثيون حتى 141ق.م، ثم الفرثيون ذوي الأصول الإيرانية حتى 224م. فالساسانيون 337م، وقام الملك سابور الثاني عام 370م بشن حملة اجتاح فيها القطيف وهجر والإحساء وتوغل في الجزيرة العربية يقتل أبناء القبائل بنزع أكتافهم ويمثل بهم. ولشناعة فعله لقبوه بذي الأكتاف. هجر قبائل وفرض على أخرى الإقامة الجبرية. وطمر المياه وردم الآبار.
وما أن قامت دولة المناذرة في الحيرة، 268- 633م. وامتدت من العراق حتى البحرين وصار لهم قادة يتصرفون كالملوك اغتاظ كسرى ملك الفرس فهو يعد العرب جزءا من مملكته فأسر النعمان بن المنذر وقتله، وكان قد استودع نساؤه وأمواله هاني بن مسعود الشيباني زعيم بني شيبان الذي رفض تسليم ما استودعه النعمان إلى كسرى، فوقعت بسببها حرب ذي قار عام 609م وقال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من الفرس". لكن هيمنة الفرس استمرت حتى ظهور الإسلام.
هذا العرض السريع لشواهد الموجات التي غشيت المنطقة يمثل غيضا من فيض صراع الحضارات وحروب كسر الإرادات والثأر والأطماع بين العراقيين القدماء وجيرانهم العيلاميين والإيرانيين والساسانيين والقوقازيين قبل ظهور الإسلام، فصراع الأقطاب شمالا وشرقا متجذر في أعماق التاريخ قبل ظهور الأديان، وما التدافع الطائفي والمذهبي والعنصري المعاصر إلا وجه طارئ من أوجه الصراع المتجددة يمده بالسخونة, ولن يتوقف وتبقى دورة التاريخ تشير "أن لكل زمان دولة ورجال". وللحديث بقية.
د. عمران الكبيسي has not set their biography yet
By accepting you will be accessing a service provided by a third-party external to https://alarshef.com/
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. - المقالات التي تنشر في الشبكة تعبر عن رأي الكاتب و المسؤولية القانونية تقع على عاتق كاتبها / الاتصال